كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال أبو علي الفارسي هذا أمر منه سبحانه بالعزم على ما أراده منه، وحض على الجد فيه لئلا يمنعه الجد الذي يغشاه في بعض الأحوال عما أمر بالمضي فيه، وقيل ان الرهب بلغة حمير هو كم الثوب، وعليه يكون المعنى واللّه اعلم، اضمم إليك يدك وأخرجها من كمك وتناول عصاك ولا تخف، فان العصا واليد قد عادتا لحالتهما {فَذانِكَ بُرْهانانِ} آيتان عظيمتان، وحجتان بالغتان، ودليلان قاطعان، على صدق نبوتك {مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ} فاذهب إليهم وانما ذكر الضمير مع أنه يعود لمؤنثين مراعاة للخبر الذي هو مذكر، أي ان قلب العصا حية واليد السمراء بيضاء نقية ميزة على الصورة المارة للمذكر، برهانان لك، فإذا طلبوا منك دليلا على دعواك النبوة فاظهرهما إليهم وادعهم للايمان {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ} 33 خارجين عن الطاعة، متوغلين في العصيان، متجاوزين الحدود {قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} 34 بها والمراد بهذا الخبر طلب الحفظ والتأييد لإبلاغ الرسالة على أكمل وجه لا الاستعفاء عنها، كما زعمت اليهود بانه استعفى ربه من قبول ذلك، وجاء في التوراة الموجودة بأيدينا في الإصحاح الرابع من الخروج الآية 14 ما نصه استمع أيها السيد أرسل بيد من ترسل وجاء في بعض النسخ أنه قال يا ربّ ابعث من أنت باعثه وهذا من التحريف المحض، راجع الآية 74 من سورة يونس ج 2 إذ يكذبه قوله تعالى: {وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسانًا} بيانا بالنطق بسبب العقدة التي في لسانه، راجع الآية 13 من الشعراء المارة تعلم أن اللّه أزالها منه {فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} بزيادة بيانه وتلخيص الدلائل التي أعرضها عليهم، والإجابة عن الشبهات التي يلقونها علي بكلام فصيح لا ركاكة فيه، ويكون عونا لي عليهم، فأتثبت بالمقام وأوضح الكلام {إِنِّي أَخافُ} إذا ذهبت إليهم وحدي {أَنْ يُكَذِّبُونِ} 34 فيتغلبوا عليّ في المجادلة فيظنوني كاذبا في دعواي، فلو كان قصده ما زعمته اليهود لقال أرسل هارون لم يقل اجعله عونا لي ولم يستطرد الكلام إلى الفصاحة، قاتل اللّه اليهود لم يتركوا شيئا حقا الا عمدوا إلى تغييره، فأجاب اللّه طلبه {قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} ونقوبك به، وهذا المراد في قوله بصدقي لا أن يقول له صدقت في دعواك كما ذكره الغير، لأن هذا يقدر عليه الفصيح والأبكم فسحبان وباقل فيه سواء لأن موسى يريد بقوله هو أفصح مني إلخ أي يقدر على الرد عليهم في المجادلة ببيان أوضح من بياني، وهذه سعادة زفت إلى هرون عفوا من اللّه إذ جاءته الرسالة بمطلق طلب أخيه المقدر عليها أزلا، ويرحم اللّه الأبوصيري إذ يقول:
وإذا سخر الإله سعيدا ** لأناس فإنهم سعداء

والعضد هو العظم الذي بين الذراع والكتف وبه تشتد اليد لأنه قوامها {وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطانًا} قويا على فرعون وملئه، وغلبة عظيمة، اذهبا إليه لا تخافا أبدا {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما} بسوء قط حيث قوينا كما {بِآياتِنا} هذه وغيرها، وقضينا في أزلنا ان يكون {أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ} 35 عليهم، وبهذه الآية استدل على عدم تسليط فرعون على السحرة، وعدم تمكنه من إنفاذ تهديده لهم، وهنا انقضت المناجاة الشريفة، فرجع عليه السلام إلى أهله وأخذهم وسار إلى مصر، فوصل إليها واجتمع بأمه وأخيه وأخته، ورآهم على أحسن حال ببركته، ثم ترك أهله وأخذ أخاه وذهب إلى فرعون بجنان قوي، وصار يدعوه إلى اللّه على الوجه المار ذكره في سورة الأعراف وطه والشعراء الآيات 103 و42 و16 فما بعدها، لأن هذه السورة كالتكملة لما تقدم فيها قال تعالى: {فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا} التي لا خفاء فيها {بَيِّناتٍ} وطلب منهما أن يؤمنوا بربّه، ويصدقوا رسالته، {قالُوا ما هذا} الذي جئتنا به من اليد والعصا بشيء يركن اليه بأنه من اللّه الذي تصفه وما هو {إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً} مختلق لا صحة له {وَما سَمِعْنا بِهذا} الإله الذي تدعي رسالته وتدعونا لعبادته {فِي} زمن {آبائِنَا الْأَوَّلِينَ} 36 ولا نحن سمعناه من غيرك وأخيك {وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ} يعني نفسه عليه السلام {وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ} المحمودة في هذه الدنيا لأنها هي التي دعا اللّه إليها عباده وركب فيهم عقولا ترشدهم إليها، ومكنهم منها وحضّهم على العمل فيها {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} 37 بمطلوبهم ولا يفوزون بمرغوبهم، ولا ينجون من محذورهم، يريد بقوله عليه السلام ربي أعلم منكم بحال من أهله للفلاح الأعظم، إذ جعله نبيا، وبعثه بالهدى، ووعده حسن العاقبة، ولو كان كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا لما أهله لذلك، لأنه غني حكيم لم يرسل الكاذبين، ولا ينيء الساحرين، ولا يفلح عنده الظالمون، فلما سمع فرعون من موسى ما أبهر عقله التفت إلى وزرائه وخاطبهم بقوله: {قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي} يقصد الخبيث إنكار إله موسى وما جاء به من الآيات وتعجب ملئه منه لينكروا عليه أيضا مثل ما أنكر هو، وقال: {فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ} كبير وزرائه {عَلَى الطِّينِ} اطبخ لي آجرا وهو أول من طبخه طبخه اللّه في ناره {فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} ابن لي قصرا عاليا كالبرج مثل المنارة {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى} قاتله اللّه أين هو من إله موسى حتى يطلع عليه قاتله اللّه.
أيظن أنه جل جلاله في مكان كي يصعد اليه، عذبه اللّه في الصعود راجع الآية 17 من المدثر المارة {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ} 38 في قوله بوجود إله غيري لهذا الخلق، وأنه أرسله إلي، قال هذا لملئه، قاتله اللّه، مع علمه ببطلانه وعلمه أن له وللكون أجمع إلها قادرا، ولكنه يموّه عليهم ليستميلهم إلى هواء، ويصرفهم هما جاء به موسى من الخطاب الذي هالهم سماعه، قالوا إن هامان لمتثل أمره حالا، وجمع خمسين ألف بنّاء مع كل واحد عملة كثيرون، وأمر بطبخ اللبن وهو الطوب النيء وطبخ الحجر، فعمل آجرا وكلسا، ونجر الخشب، وعمل المسامير، وضرب الحديد، وباشر بإسادة البناء، فأنشأوا له الصرح، وبالغوا في ارتفاعه إلى حد لم يبلغه منتهى البصر، وقد سخّر اللّه لهم ذلك ليفتنهم فيه، فلما فرغوا منه صعده فرعون راكبا على البرذون حتى بلغ رأسه، وصار يرمي بنشابه نحو السماء ففتنه ربه بأن أعاد له النبل ملطخا بالدم ليغتر ويدعي الإلهية الكبرى، ولما رأى ذلك نزل وقال قتلت إله السماء الذي يزعم موسى أنه إلهه وأنه أرسله إلينا، فبينا هو كذلك إذ بعث اللّه جبريل فضرب الصرح بجناحه فقطعه ثلاثا، فطارت منه قطعة في البحر، وقطعة في الغرب، وقطعة على معسكر فرعون قتلت منهم ألف ألف، ولم يبق أحد ممن عمل فيه شيئا إلا هلك، هكذا قال القصاص والأخباريون، إذ لم يرد فيه ما يعتمد عليه من حديث أو خبر في كيفية هذا الصرح وماهيته وما صار إليه لأن القرآن أثبت وجوده فقط، قال تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ} أرض مصر لأن ملكه لا يتعداها كما تبين من قول شعيب عليه السلام في الآية 26 المارة، واستكباره هذا هو وقومه كان {بِغَيْرِ الْحَقِّ} لأنهم يعلمون أن فرعون ليس باله حقيقة وان ربه ورب السموات والأرض ومن فيهما هو اللّه وحده، ولكنهم جحدوا {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ} 39 وانا لا نجازيهم على أعمالهم قال تعالى: {فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ} على الصورة المبينة في الآية 63 من سورة الشعراء المارة جزاء طغيانهم هذا في الدنيا {فَانْظُرْ} يا سيد الرسل، واذكر لقومك {كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} 40 ليعتبروا ويتيقظوا من غفلتهم، علهم يرجعون عن عنادهم فيؤمنون بك قبل أن يحلّ بهم العذاب المقدر لهم.
{وَجَعَلْناهُمْ} فرعون وقومه {أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} قادة ورؤساء دعاة إليها، وقد أردنا بإرسال موسى إليهم أن يكونوا قادة إلى الجنة، فخذلناهم وجعلنا مصيرهم الهلاك غرقا {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ} 42 أيضا، بل يخذلون أسد من خذلان الدنيا، ويعذبون بأفظع من عذابها {وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً} طردا وبعدا وخزيا بأن جعلنا الناس تلعنهم خلفا عن سلف، وصاروا يضربون المثل لكل ظالم بفرعون وملئه ويلعنونهم {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} 42 إذ تشوه وجوههم بالسواد وأجسادهم وعيونهم بالزرقة، وزرقة العين مع السواد قبيحة جدا، ولذلك ترى زرقة العين في الدنيا عند بيض الأجسام والوجوه، ولا تجتمع زرقة العين مع سود الجوم البتة، وقد توجد في بعض السمر قليلا جدا بسبب الاختلاط في المناكحة، وهي مكروهة أيضا وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن.
واعلم أنه لا يجوز لعن واحد بعينه سواء كان مسلما أو كافرا، إلا من تحقق موته على الكفر، أما لعن الجنس فيجوز، بأن تقول لعنة اللّه على الكافرين، على الظالمين، راجع الآية 78 من سورة المائدة في ج 3.
ولهذا البحث صلة في الآية 60 من سورة الإسراء الآتية فراجعه ففيه الكفاية.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى} أقوام هود وصالح وإبراهيم ومن تقدمهم من قوم نوح، وانما قال تعالى من بعد إهلاك هؤلاء وهو أعلم إشعارا بأنها أي التوراة المعبر عنها بالكتاب، نزلت بعد مساس الحاجة إليها تمهيدا لما يعقبه من بيان مساس الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن العظيم على محمد صلّى اللّه عليه وسلم، لأن إهلاك القرون الأولى من موجبات اندراس معالم الشرائع وانطماس آثارها المؤديين إلى اختلال نظام العالم وفساد أحوال الأمم المستدعين إلى لزوم إحداث لزوم تشريع جديد بتقرير الأحوال الباقية على مر الدهور وترتيب الفروع المبدّلة بتبدل العصور وتذكير أحوال الأمم الماضية الخالية الموجبة للاعتبار، ومن لم يرشد إلى هذا فسّر القرون الاولى بمن لم يؤمن بموسى عليه السّلام وهو ليس بشيء، وجعل هذا الكتاب وهو التوراة {بَصائِرَ لِلنَّاسِ} نورا لقلوبهم يبصرون بها الحقائق ويميزون بها بين الحق والباطل، إذ كانوا عميا عن الفهم والإدراك بالكلية، لأن البصيرة نور القلب الذي به يستضيئون، ويستبصر بالبصيرة أهل المعرفة، كما أن البصر العين الذي تبصر الحسيات المادية، {وَهُدىً} من الضلال إذا عملوا بها {وَرَحْمَةً} لمن صدّق بها وآمن بمن أنزلت عليه {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 43 بما فيها من المواعظ، وقد صح أن عمر رضي اللّه عنه استأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال إنا نسمع أحاديث من يهود فتعجبنا، فترى انكتب بعضها؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم أتتهوكون كما تهوكت اليهود والنصارى، لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو أن موسى حي ما وسعه إلا اتباعي.
ومعنى تتهوكون تتحيرون ومعنى بيضاء نقية لا تحتاج إلى شيء آخر.